فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن قومًا كانوا يجعلون خير أموالهم لأهليهم في الجاهلية فقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من خلقه {وَيَخْتَارُ} من يشاء لطاعته، وهو معنى قول ابن عباس.
الثاني: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من الخلق {وَيَخْتَارُ} من يشاء لنبوته، قاله يحيى بن سلام.
الثالث: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} النبي محمدًا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {وَيَخْتَارُ} الأنصار لدينه حكاه النقاش.
{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وفيه وجهان:
أحدهما: معناه ويختار للمؤمنين ما كان لهم فيه الخيرة فيكون ذلك إثباتًا.
الثاني: معناه ما كان للخلق على الله الخيرة، فيكون ذلك نفيًا. ومن قال بهذا فلهم في المقصود به وجهان:
أحدهما: أنه عنى بذلك قومًا من المشركين جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فنزل ذلك فيهم، قاله ابن شجرة.
الثاني: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال ما حكاه الله عنه في سورة الزخرف {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ} الآية [الزخرف: 31] يعني نفسه وعروة بن مسعود الثقفي فقال الله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أن يتخيروا على الله الأنبياء. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} الآية، قيل سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقول بعضهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع، ورد الله تعالى عليهم وأخبر أنه يخلق من عباده وسائر مخلوقاته ما يشاء وأنه يختار لرسالته من يريد ويعلم فيه المصلحة ثم نفى أن يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه، هذا قول جماعة من المفسرين أن {ما} نافية أي ليس لهم تخير على الله تعالى فتجيء الآية كقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله} الآية [الأحزاب: 36].
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد و{يختار} الله تعالى الأديان والشرائع وليس له الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {سبحان الله وتعالى عما يشركون} وذهب الطبري إلى أن {ما} في قوله تعالى و{يختار ما كان} مفعولة ب {يختار} قال: والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم لأصنامهم أشياء فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده يخلق ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس لا كما يختارون هم ما ليس إليه ويفعلون ما لم يؤمروا به.
قال القاضي أبو محمد: واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى: {ما كان لهم الخيرة} بأقوال لا تتحصل وقد رد الناس عليه في ذلك، وذكر عن الفراء أن القاسم بن معن أنشده بيت عنترة: البسيط:
أمن سمية دمع العين تذريف ** لو كان ذا منك قبل اليوم معروف

وقرن الآية بهذا البيت والرواية في البيت لو أن ذا ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون الأمر والشأن مضمرًا في كان وذلك في الآية ضعيف، لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها مجرور وفي هذا كله نظر، والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في قوله: {ويختار} وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك ويتجه عندي أن يكون {ما} مفعولة إذا قدرنا {كان} تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه، وقوله تعالى: {لهم الخيرة} جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}.
ذكر تعالى في هذه الآيات أمورًا يشهد عقل كل مفطور بأن الأصنام لا شركة لها فيها، فمنها علم ما في النفوس وما يجيش بالخواطر، و{تكن} معناه تستر، وقرأ ابن محيص {تَكُن} بفتح التاء وضم الكاف، وعبر عن القلب ب الصدر من حيث كان محتويًا عليه، ومعنى الآية أن الله تعالى يعلم السر والإعلان، ثم أفرد نفسه بالألوهية ونفاها عن سواه، وأخبر أن الحمد له في الدنيا والآخرة إذ له الصفات التي تقضتي ذلك، و{الحكم} في هذا الموضع القضاء والفصل في الأمور، ثم أخبر بالرجعة إليه والحشر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار}.
روى العوفي عن ابن عباس في قوله: {وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار} قال: كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد ابن المغيرة حين قال: {لولا نُزِّلَ هذا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنَ القريتين عظيمٍ} [الزخرف: 31]؛ والمعنى: أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم.
قال الزجاج: والوقف الجيِّد على قوله: {ويختار} وتكون {ما} نفيًا؛ والمعنى: ليس لهم أن يختاروا على الله؛ ويجوز أن تكون {ما} بمعنى الذي، فيكون المعنى: ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه؛ قال الفراء: والعرب تقول لِمَا تختاره: أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة، قال ثعلب: كلها لغات.
قوله تعالى: {ما تُكِنُّ صُدورُهم} أي: ما تُخفي من الكفر والعداوة {وما يُعْلِنون} بألسنتهم.
قوله تعالى: {له الحَمْد في الأُولى والآخرة} [أي]: يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة {وله الحُكْم} وهو الفصل بين الخلائق.
والسَّرمد: الدائم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.
هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم للشفاعة؛ أي الاختيار إلى الله تعالى في الشّفعاء لا إلى المشركين.
وقيل: هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني نفسه زعم، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف.
وقيل: هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به.
قال ابن عباس: والمعنى؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته.
وقال يحيى بن سلاّم: والمعنى: وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوّته.
وحكى النقاش: أن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويختار الأنصار لدينه.
قلت: وفي كتاب البزّار مرفوعًا صحيحًا عن جابر: «إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمّتي على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون» وذكر سفيان بن عُييْنة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبّه عن أبيه في قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال: من النعم الضأن، ومن الطير الحمام.
والوقف التام {وَيَخْتَارُ}.
وقال عليّ بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون {ما} في موضع نصب ب {يَخْتَارُ} لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء.
قال وفي هذا رد على القدرية.
قال النحاس: التمام {وَيَخْتَارُ} أي ويختار الرسل.
{مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي ليس يرسل من اختاروه هم.
قال أبو إسحاق: {وَيَخْتَارُ} هذا الوقف التام المختار، ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب ب {يختار} ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخِيرَة.
قال القشيري: الصحيح الأوّل لإطباقهم على الوقف على قوله: {وَيَخْتَارُ}.
قال المهدوي: وهو أشبه بمذهب أهل السنة و{ما} من قوله: {مَا كَانَ لَهمُ الْخِيْرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل.
الزمخشري: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخَيَرةُ} بيان لقوله: {وَيَخْتَار}؛ لأن معناه يختار ما يشاء؛ ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى؛ إن الخيرة لله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها أي ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
وأجاز الزجاج وغيره أن تكون {ما} منصوبة ب {يَخْتَارُ}.
وأنكر الطبريّ أن تكون {ما} نافية؛ لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدّم كلام بنفي.
قال المهدوي: ولا يلزم ذلك؛ لأن {ما} تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها؛ ولأن الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه، وعلى ما هم مصرون عليه من الأعمال وإن لم يكن ذلك في النص.
وتقدير الآية عند الطبري: ويختار لولايته الخيرة من خلقه؛ لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} للهداية من خلقه من سبقت له السعادة في علمه، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم، ف {ما} على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي و{الْخِيَرَةُ} رفع بالابتداء و{لَهُمُ} الخبر والجملة خبر {كان}.
وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف؛ إذ ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد.
وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس.
قال الثعلبي: و{ما} نفي أي ليس لهم الاختيار على الله.
وهذا أصوب كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
قال محمود الورّاق:
توكّل على الرحمن في كل حاجةٍ ** أردتَ فإن الله يقضي ويقدِر

إذا ما يرِدْ ذو العرش أمرًا بعبده ** يصبْه وما للعبد ما يتخير

وقد يهلك الإنسانُ من وجهِ حِذْره ** وينجو بحمد الله من حيث يحذر

وقال آخر:
العبدُ ذو ضَجَرٍ والربُّ ذو قَدَرٍ ** والدّهرُ ذو دُولٍ والرِّزْقُ مقسومُ

والخيرُ أجمعُ فيما اختار خالقُنا ** وفي اختيار سواه اللَّومُ والشُّومُ

قال بعض العلماء لا ينبغي لأحد أن يقدُم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك؛ بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وفي الركعة الثانية {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} الآية، وفي الركعة الثانية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} وكلٌّ حسن.
ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلّمنا السورة من القرآن؛ يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدِر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فَاقْدُره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» قال: «ويسمي حاجته».
وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرًا قال: «اللهم خِرْ لي واختر لي» وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه» قال العلماء: وينبغي له أن يفرّغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلًا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله.
وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نزه نفسه سبحانه بقوله الحق؛ فقال: {سُبْحَانَ الله} أي تنزيهًا.
{وتعالى} أي تقدّس وتمجد {عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون.
وقرأ ابن محيصن وحميد: {تَكُنُّ} بفتح التاء وضم الكاف.
وقد تقدم هذا في النمل.
تمدح سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقدم معناه، وأنه المنفرد بالوحدانية، وأن جميع المحامد إنما تجب له، وأن لا حكم إلا له وإليه المصير. اهـ.